"وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ"
الصف - الآية (6)
أحمد الدقامسة ، بطلٌ بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، بطلٌ لم أعرفه، و لم أسمع باسمه مسبقاً، رجلٌ في زمنٍ قلت فيه الرجالات، يدعو إلى سبيل الله في الأرض، اقترعوا على اسمه ثلاثاً و أراد الله أن يكون أحمدا، جُبل على حب الأرض و عشقها، شبَّ عن طوقه حاملاً بندقيته في قلبه و على عاتقه، في زمنٍ عُبِدَتْ فيه إسرائيل الغاصبة، كما عبدت الأصنام و التماثيل في عهد نبينا الصادق الأمين، الذي جاء داعياً بدين الله، دين آدم، ويعقوب، و عيسى، وموسى ، بالدين الحق الصواب، فهُوجِمَ و أُنْكِر و أبعد و أؤذي في سبيل الحق و نصرة الدين! ، و ما أشبه اليوم بالبارحة، فها هو (أحمد الدقامسة)، هذا السائر على الفطرة و الجِبِلَة السليمة يُنْكرهُ قومه و أقوامٌ أخرى ، كنت أقرأ في الصفحات الأولى من الرواية ، و لا أرى أي شيء يناقض الفطرة السليمة ، فها هو أحمد كأطفال فلسطين يكره الصهاينة و يمقتهم حد الموت ، و يحلم كما يحلم أطفالنا اليوم بمحاربة الصهاينة المغتصبين ، و دحرهم عن بلادنا مطرودين مغبرين ، شَعِثي الرؤوس يتنزه القمل في فرواتهم القذرة ، يتكدس الجرب على جلودهم النجسة كما وفدوا إلى فلسطين، يلتحق بالجيش العربيَّ؛ كرامةً لوطنه المحتل (فلسطين)، يتحين الفرصة كأسدٍ يتربص بالفريسة، و بعد أن يصيب الهدف، و يهتز منتشياً من لذة النصر، يجد نفسه أسير قفصٍ صنعته يد الإنسان، هذا المخلوق الأكثر وحشية على وجه البسيطة، يتخبط داخل القفص زائراً، و مزمجراً كالرعد ، يستغرب هؤلاء البشر! ، و لسان حاله يقول: ألا تتقون الله؟،تعاقبوني على ما أمر الله به !
و مع هذا يُسحَبُ أحمد إلى غياهب السجون و ظُلماتها ، و تبدأ حفلة التعذيب الدامية، لا يشعر بألم سياطهم ، فجرح قلبه النازف امتص جراح جسده ، ينظر لجلاديه ، مدهوشاً واجماً ، يُخاطبُ نفسه قائلاً : أَنتَقَلتُ و سافرتُ عبر الزمن ؟!! ، هذا ليس بالزمن الذي آلفه ، أتراني إنسانٌ حجَريّ ، اقتنصتُ الزواحف السامة على عادة آبائي و أسلافي ، و لكني أعاقب و أعذب الآن ، قديماً و كما حدثني والدي لم يكن يجرم من يدافع عن موطنه و مسكنه ، حتى (الغربان) في البرية تدافع عن أعشاشها و تعاقب الغراب المغتصب لعش آخر من جماعته ، بل و لا تبقي له ريشةً إذا ما سرق طعام فرخٍ صغير . أم أنني أتيت بدين الحنفاء الموحدين، بعد زمنٍ استراحت به الأرض من الطغاة الجاحدين ، أي فرعون هذا الذي تجبر و حشد هؤلاء الأفاقين حوله ، فأخذوا يسحلونني تارةً ، و يصلبونني تارةُ ، و يلهبون جسدي العاري بسياط أسيادهم العبيد تارةً أخرى !
إني و الله، لفي زمنٍ الوحوش ذوي البذلات الرسمية، لفي زمن النجوم المنكسات رؤوسهن على أكتافهم ، ينتظرن يداً تخلعهن من أسرهن ، ليهبطن على أكتاف الأبطال يتزين ببهائهم و شجاعتهم ، و يقتبسن من نورهم ضياء لهن .
تحقيقاتٌ كثيرة ، و جلسات عذابٍ نفسية و أطباء ؛ كي يتحققوا صدق كلام أحمد ! ، يكذبون هذا البطل ، بل يكذبون و يتلونون للفطرة السليمة ، لا يمكن أن يفعل فعلته (قتل المجندات الإسرائيليات السبع) إلا إذا كان مدفوعاً من حزبٍ أو جماعةٍ إسلامية! ، أو مريض و مختلٌ عقلي _ و ما مختلٌ و الله إلا هم ، ناقضوا أنفسهم فناقضتهم _ حتى انتهى بهم الأمر إلى عرافةٍ فصدَّقوها و قبلوا ما يقوله على مضض.
و لكنها الفطرة السليمة ، التي أصبحت طفرةً في هذا الزمن السحيق و المخزي ، ما زلتُ أنكر فعلتهم ، و لا أقصد هنا تلك الوحشية و الصلف الذي تلقاه أحمد ، و لكن إنكارهم لبطولة كانت يجب أن يتوج صاحبها ، و يتخذ قدوة يُحتذَى بها ! كيف للضحية أن تعانق جلادها ، و كيف للماشية أن تصادق الضباع النتنة ، ألا يرون أخبار فلسطين ، ألا يطالعون عدد الأسرى البواسل في سجون الاحتلال ، بل عدد الأطفال و النساء الأُسارى ، أيُنسى (أحمد مناصرة، مش متذكر)، ألا يرون أرواحنا الرخيصة في سبيل فلسطين الحبيبة ، أم حصارنا الخانق في غزة ، و تلك الاجتياحات البرية التي عرفناها صغاراً ، أننسى نحن الحروب و نيرانها ، و ليالينا المضاءة بلهيب صواريخهم ، أم أنسى ركضي حافية القدمين في ممرات المشفى ليلة العيد لا أدري أهي عائلتي التي أفنيت عن آخرها قبل بضع دقائق من سقوط صاروخ الموت اللاهث نحو الحياة ، أطالع الشهداء من النافذة ، و أبصر الجرحى خوفاً من أن تكون عائلتي، بعدما قطعت شبكات الاتصال ، و أحمد الله أنها ليست عائلتي ، و ينهرني صوتٌ بداخلي ما هذا الفرح ؟! ، إنها عائلة آخر أو أخرى أمسوا وحيدين ، فأسقط رأسي خجلاً من فرحي الحزين .
هدى غالية، تلك الطفلة الصغيرة التي فقدت عائلتها على شاطئ غزة ، محمد الدرة المختبئ خلف والده ، و ترديدنا للمقطوعة الموسيقية التي غناها الملايين في العالم (على صوت الحجر)، أليس كل هؤلاء أحق بالاعتذار لعوائلهم ، و مساندة العالم لهم ؟!
نهايةً، خرج أحمد من الظُلمات إلى النور يقصُ تجربته عبر سطور هذه الرواية ، داعياً للصمود و عدم المهادنة مع عدو فلسطين، عدو الأمة ، مفصلاً مرارة السجن، و وحشية ابن آدم ، تنكرهم لابن جلدتهم ، مراضاةً لأبناء القردة و الخنازير (الصهاينة) ، مذكراً لمن نسيَ تاريخَ بني صهيون ، و أنهم يشحذون السكاكين كل ساعةٍ و وقتٍ لإبادتنا عن آخرنا ، بينما العالم ينام في دعةٍ بالخارج ، و يأكل مما تفضلت به الكائنات الزاحفةُ عليهم من فضلة أموالنا التي صُيِّرت أموالاً و خزائنَ لهم .
كل الكلمات لا تفيك حقك يا أحمد ، و لا تفي راوي تجربتك القاسية (د.أيمن العتوم) دونما خوفٍ أو هوادة، و بشجاعة هنا، المعركة لا تزال مستمرة ، و لن تهدأ مادام يخرج من أصلابنا أحمدون، حاملين نبوءة اخضرار الأرض و خصوبتها بعد جدبها و عقمها ، مستردين قدسها و كل شبرٍ من ثراها الطاهر .